قصة وعبرة

أطفال الشوارع: حكاية لقمة مجبولة بالسم \ ريم عبيد

أطفال الشوارع:حكاية لقمة مجبولة بالسم

كتبت ريم عبيد

في ساعات الظهر الأولى، في بيروت، وفي إحدى المفارق المؤدية لحاجز الجيش..شعرت بشيء من الجوع لأني خرجت مسرعة من بيتي لأمر طارئ، فوجدت علبة فيها عدة قطع بسكويت(دبكة)، استليتها من حقيبتي، وفتحتها وأنا أقضم أول قضمة منها، يقترب مني طفل بعمر العشر سنوات تقريبا، ويقول:”أعطني بسكوتة، الله يخليك”، لم أشفق عليه كعادتي للمرة الأولى في حياتي، أومأت له أن يبتعد عن سيارتي، ونظرت اليه مطولا دون أن ابتسم.

هذه المرة لم يكرر طلبه كعادة هؤلاء الأطفال، التي خلفتهم أزمة النزوح السوري والتي يسعى مسؤولون في لبنان الى حلها جاهدين على رأسهم المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم في ظل عراقيل يضعها من لا يرغبون من منظمات المجتمع المدني المدفوعة من دول كبرى في ذلك لا بل يعمقون المعاناة رغم ادعائهم بخلافها.

وان كان جزء من هؤلاء الأطفال قبل الأزمة، لكنهم الآن متواجدين بأعداد مضاعفة وبكثافة أصبحت مزعجة ومؤلمة في آن، يكاد لا يخلو شارع منهم، وتراهم موزعين على كل النقاط المركزية في البلاد من مفارق وطرقات وحواجز وغيرها، يحفظون خريطة المنطقة أكثر من أهل البلاد .

وعودة الى طفل العشر سنوات، الذي وللمرة الاولى لم يكرر طلبه،بل رد علي بجواب صادم، قائلا :”تأكلي سم”..ثم نظر الي نظرة مطولة،وكررها، “تاكلي سم”..صدقا لم أتأثر كثيرا، لأننا اعتدنا أن هؤلاء هو مكلفون من عصابة تجارة بعمر الأطفال وبراءتهم، يرمون بهم في الشارع ليحصّلوا لهم بعض الأموال ليفتحوا بها استثمارات وشركات ويتاجروا فيها كما يتاجرون بهؤلاء الأطفال.

لم أتأثر لأن بخلفيتي أعلم أن هذا الطفل مهما أعطيته لن يأخذ شيئا لنفسه، لأن مشغله، يضع عليه رقيبا من بعيد، يعدّ كل ما يدخل الى جيبه من أموال، ويراقب ما يحصل عليه من الناس، وإن حاول أن يخفي شيئا فلا شك سيتحاسب حسابا عسيرا، حاله هذا يشبه الى حد كبير المصارف عندنا في لبنان في تعاطيها مع المواطن، في السابق كانوا يرغبوننا بالعروض الكبيرة، سواء على مستوى الايداعات او القروض، الآن هم كهذا المراقب، الذي ينتظر أي قانون جديد يضيف الى جيوبنا فلسا جديدا، يخترعون قانونا خاصا بهم لسحبه من جيوبنا، وكذلك يشبه هذا الرقيب حاكم مصرف لبنان الذي يجلس على رأس القطاع المالي، وينتظر أي دفعة بالدولار تنزل الى السوق، ينبري الى طبع مئات الالوف بالليرة اللبنانية ليسحب كل الدولارات من السوق، كالمكنسة الكهربائية، التي لا تبق ولا تذر، والكارثة ان حلت سيقضي على اللبنانيين جميعا، فالبعض يقول قد يتبوأ منصب رئاسة الجمهورية، وهو الآن يتحضر لخبطة كبيرة في الاقتصاد وتحديدا بالدولار، تجعله مقبولا من اللبنانيين، وفجأة يصبح رئيسا للبلاد، وكما نهب الأموال يبيع البلاد، حتى اللحظة ليس واضحا من سيدفع فيها أكثر فقد تجد نفسك تتحدث الانكليزية بطلاقة لأنه لم تعد اللبناني، وقد تجد نفسك تتحدث السعودية بطلاقة لأنك أيضا لم تعد لبناني، ارفعوا أيديكم بالدعاء كي لا يحصل هذا التوقع.

وبالعودة الى طفل الشارع الذي دعا عليّ بأكل السم، هو ذهب، ولكن بعد مسافة مترين فقط، كان يجلس طفلان الأول كطفل هذه القصة حتى أنه يشبهه، ويبدوان من عائلة واحدة، أما الثاني فلم يتعد عمره الأربع سنوات، وقد لون الشارع وجهه ويديه بالسواد، الا البراءة تقطفها من عينين تلمعان، رؤيته على حاله هذا تجبرك على ذرف الدموع بلا تفكير للحظة تذهب بعيدا نحو صورة هذا الطفل الذي تعرف من خلال تجربتك مع أطفالك كم يحتاج من عناية واهتمام، كم هو رقيق وشفاف، يداه صغيرتان ورجلاه كم تتحملان الوقوف، وكم يتحمل صدره دخان السيارات والتلوث، ومن أي ساعة يصحو ليجلس ها هنا،وكيف يعود الى منزله واين منزله أصلا وأين ينام، وكيف ينام، وكيف يتدفأ في أيام البرد، وما لون بطانيته هل هي أيضا تلونت بلون السواد، وهل بات يتآلف مع الحشرات ويشعر انها تسليه بيد أن أطفالنا يخشونها او يهربون منها،كل هذه الأسئلة تمر كشريط الذكريات بمخيلتك بلحظة، تستفيق من أفكارك لترى وجهه من جديد ، وإن كنت تعرف حقا أن هناك من وضعه بالتحديد في هذه النقطة وهو يعرف أنك ستشفق على براءته.

المهم أني فتحت النافذة واقتربت منه واعطيته علبة البسكويت، لأنني لم أعد قادرة أن أتناول منها واحدة أخرى بعد دعاء ذات الطفل المشاكس علي، المفاجئ، أنه صرخ بصوت عال، بسكوتةةةة، وأخذها بلهفة، وشكرني بعينيه، والطفل الآخر الذي كان يجلس بجانبه، صار يرتجيه أن يعطيه قطعة، ولعلي سمعته يبتزه بشيء، ألم أعطك كذا؟

ألم أقل لفلان كذا عنك؟؟

ألم ألم؟

وكله من أجل قطعة بسكويت..

في هذه اللحظة، شعرت بأني أسرت الطفل المشاكس حين رفضت إعطاءه البسكويت، ذلك أن مشغليه، يبدو أنهم وضعوا قانونا مفاده، أن كل شيء تستلمه على شكل مواد للأكل ، سندويتشة، قطعة بسكويت، منقوشة باللبناني، أي شيء من هذا القبيل فهو حقك .

أما أن تحصل على شيء من المال فهو حق هذا المشغل الحقير، وهذا التفسير الوحيد الذي أقنعني بسعي هؤلاء الأطفال من أجل قطعة بسكويت..

وأرى في هذه القصة،مقاربة تشبه الواقع اللبناني، المواطن الذي سحب منه ماله وهو في منزله، حوصرت ودائعه، منع من حقوقه، مع أن هذا الطفل مسموح أن يحصل على قوت يومه بالمجان، ولكن اللبناني يحارب حتى في لقمة عيشه، التي لم يعد قادرا على شرائها بعد أن طار الدولار، وسقطت عملته وأصبحت في الحضيض، وما زال جزء من اللبنانيين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، لا والأنكى من ذلك، أن الزيادة على الرواتب لم تلبث أن طبقت، حتى توجهت المصارف الى سحبها عبر رفع قيمة الدولار لديها الى 12 الف ليرة، بعد أن كان 1515، وما بين حقها ولا حقها، تسأل المصارف عن صمتها قبل وصول البلاد الى هذا المسوى من التردي الاقتصادي، وهي كانت على علم بكل ما ستؤول اليه الأمور، لكنها التزمت الصمت حفاظا على مصالحها.

وبعالودة الى قصتنا، أعتقد أن شفقتنا بالمال على هؤلاء الأطفال تضرهم، بينما لو حولنا مساعداتنا الى عينية، أعتقد قد يستفيدون منها أكثر من المال، وتكون الضربة مزدوجة، فمن جهة نكون قد أعطينا هذا الطفل حاجته من قوت يومه، والثانية حرمنا مشغله من أن يستغل البراءة لأهدافه الدنيئه..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى